الْجُزْء الْثَّالِث
وَيَبْدَأ فَصَل جَدِيْد مِن فُصُوْل حَيَاة يَوْسُف عَلَيْه الْسَّلَام:
الْمَشْهَد الْاوَّل:
بَعْد مَا رَأَى الْمَلِك مِن أَمْر يُوَسُف. بَرَاءَتَه، وَعَلَّمَه، وَعَدَم تَهافَتِه عَلَى الْمُلْك. عُرِّف أَنَّه أَمَام رَجُل كَرِيْم، فَلَم يَطْلُبْه لِيَشْكُرْه أَو يَثُنِّي عَلَيْه، وَإِنَّمَا طَلَبِه لِيَكُوْن مُسْتَشَارُه. وَعِنْدَمَا جَلَس مَعَه وَكَلَّمَه، تَحَقَّق لَه صَدَق مَا تَوَسُّمُه فِيْه. فَطْمَئِنّه عَلَى أَنَّه ذُو مَكَانَه وَفِي أَمَان عِنْدَه. فَمَاذَا قَال يُوْسُف؟
لَم يُغَرِّق الْمَلِك شُكْرَا، وَلَم يَقُل لَه: عِشْت يَا مَوْلَاي وَأَنَا عَبْدُك الْخَاضِع أَو خَادِمِك الْأَمِيْن، كَمَا يَفْعَل الْمُتَمَلِّقُون لِلْطَّوَاغِيْت؛ كَلَّا إِنَّمَا طَالِب بِمَا يَعْتَقِد أَنَّه قَادِر عَلَى أَن يَنْهَض بِه مِن الْأَعْبَاء فِي الْازِمَة الْقَادِمَة.
كَمَا وَأَوْرَد الْقُرْطُبِي فِي تَفْسِيْرِه. أَن الْمَلَك قَال فِيْمَا قَالَه: لَو جَمَعْت أَهْل مِصْر مَا أَطَاقُوْا هَذَا الْأَمْر.. وَلَم يَكُوْنُوْا فِيْه أُمَنَاء.
كَان الْمَلِك يَقْصِد الْطَّبَقَة الْحَاكِمَة وَمَا حَوْلَهَا مِن طَبَقَات.. إِن الْعُثُور عَلَى الْأَمَانَة فِي الْطَّبَقَة الْمُتْرَفَة شَدِيْد الصُّعُوْبَة.
اعْتِرَاف الْمَلِك لِيُوَسُف بِهَذِه الْحَقِيقَة زَاد مِن عَزْمِه عَلَى تَوَلَّي هَذَا الامْر، لأَنْقَاذ مِصْر وَمَا حَوْلَهَا مِن الْبِلَاد مِن هَذِه الْمَجَاعَة.. قَال يُوْسُف: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِن الْأَرْض إِنِّي حَفِيْظ عَلِيِّم).
لَم يَكُن يُوْسُف فِي كَلِمَتِه يَقْصِد الْنَّفْع أَو الْاسْتِفَادَة. عَلَى الْعَكْس مِن ذَلِك. كَان يَحْتَمِل أَمَانَة إِطْعَام شُعُوْب جَائِعَة لِمُدَّة سَبْع سَنَوَات.. شُعُوْب يُمْكِن أَن تُمَزِّق حُكَّامِهَا لَو جَاعَت.. كَان الْمَوْضُوْع فِي حَقِيْقَتِه تَضْحِيَة مِن يُوَسُف.
لَا يَثْبُت السِّيَاق الَقُرْآني أَن الْمَلِك وَافَق.. فَكَأَنَّمَا يَقُوْل الْقُرْآَن الْكَرِيْم إِن الْطَّلَب تَضَمَّن الْمُوَافَقَة.. زِيَادَة فِي تَكْرِيْم يُوَسُف، وَإِظْهَار مَكَانَتُه عِنْد الْمَلِك.. يَكْفِي أَن يَقُوْل لِيُجَاب.. بَل لِيَكُوْن قَوْلُه هُو الْجَوَاب، وَمَن ثُم يُحْذَف رَد الْمَلَك.. وَيُفْهِمُنا شَرِيْط الْصُّوَر الْمَعْرُوْضَة أَن يُوَسُف قَد صَار فِي الْمَكَان الَّذِي اقْتَرَحَه.
وَهَكَذَا مَكَّن الْلَّه لِيُوَسُف فِي الْأَرْض.. صَار مَسْؤُوْلا عَن خَزَائِن مِصْر وَاقْتِصَادِهَا.. صَار كَبِيْرا لِلْوُزَرَاء.. وَجَاء فِي رِوَايَة أَن الْمُلْك قَال لِيُوَسُف: يَا يُوْسُف لَيْس لِي مِن الْحُكْم إِلَا الْكُرْسِي.. وَلَا يُنْبِئُنَا السِّيَاق الَقُرْآني كَيْف تَصَرَّف يُوْسُف فِي مِصْر.. نَعْرِف أَنَّه حَكِيْم عَلِيِّم.. نَعْرِف أَنَّه أَمِيْن وَصَادِق.. لَا خَوْف إِذَا عَلَى اقْتِصَاد مِصْر.
الْمَشْهَد الْثَّانِي :
دَارَت عَجَلَة الْزَّمَن.. طَوَى السِّيَاق دَوْرَتَهَا، وَمَر مُرْوَرَا سَرِيْعَا عَلَى سَنَوَات الْرَّخَاء، وَجَاءَت سَنَوَات الْمَجَاعَة.. وَهْنَا يَغْفُل السِّيَاق الَقُرْآني بَعْد ذَلِك ذَكَر الْمَلِك وَالْوُزَرَاء فِي الْسُّوْرَة كُلِّهَا.. كَأَن الْأَمْر كُلَّه قَد صَار لِيُوَسُف.
الَّذِي اضْطَلَع بِالْعِبْء فِي الْأَزِمَّة الْخَانِقَة الْرَّهِيْبَة. وَأَبْرَز يُوَسُف وَحْدَه عَلَى مَسْرَح الْحَوَادِث, وَسَلَط عَلَيْه كُل الْأَضْوَاء.
أَمَّا فِعْل الْجَدْب وَالْمَجَاعَة فَقَد أَبْرَزَه السِّيَاق فِي مَشْهَد إِخْوَة يُوَسُف, يَجِيْئُوْن مِن الْبَدْو مِن أَرْض كَنْعَان الْبَعِيْدَة يَبْحَثُوْن عَن الْطَّعَام فِي مِصْر.
وَمِن ذَلِك نُدْرِك اتِّسَاع دَائِرَة الْمَجَاعَة, كَمَا كَيْف صَارَت مِصْر - بِتَدْبِيْر يُوَسُف - مَحَط أَنْظَار جِيْرَانَهَا وَمَخْزَن الْطَّعَام فِي الْمِنْطَقَة كُلِّهَا.
لَقَد اجْتَاح الْجَدْب وَالْمَجَاعَة أَرْض كَنْعَان وَمَا حَوْلَهَا. فَاتَّجَه إِخْوَة يُوَسُف - فِيْمَن يَتَّجِهُون - إِلَى مِصْر. وَقَد تَسَامَع الْنَّاس بِمَا فِيْهَا مِن فَائِض الْغَلَّة مُنْذ الْسَّنَوَات السَّمَّان. فَدَخَلُوْا عَلَى عَزِيْز مِصْر, وَهُم لَا يَعْلَمُوْن أَن أَخَاهُم هُو الْعَزِيْز.
إِنَّه يَعْرِفُهُم فَهُم لَم يَتَغَيَّرُوْا كَثِيْرا. أَمَّا يُوْسُف فَإِن خَيَالَهُم لَا يُتَصَوَّر قَط أَنَّه الْعَزِيْز! وَأَيْن الْغُلَام الْعِبْرَانِي الْصَغِيْر الَّذِي أَلْقَوْه فِي الْجُب مُنْذ عِشْرِيْن عَاما أَو تَزِيْد مِن عَزِيْز مِصْر شِبْه الْمُتَوَّج فِي سِنِّه وَزِيَّه وَحَرَسَه وَمَهَابَتَه وَخَدَمِه وَحَشَمِه وَهَيَّلَه وَهَيْلَمَانِه?
وَلَم يُكْشَف لَهُم يُوَسُف عَن نَّفْسِه. فَلَا بُد مِن دُرُوْس يَتَلَقَّوْنَهَا: (فَدْخُلُوا عَلَيْه فَعَرَفَهُم وَهُم لَه مُنْكِرُوْن ). وَلَكِنَّا نُدْرِك مِن السِّيَاق أَنَّه أَنْزِلْهُم مُنْزَلِا طَيِّبَا, ثُم أَخَذ فِي إِعْدَاد الْدَّرْس الْأَوَّل: ( وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِم قَال ائْتُوْنِي بِأَخ لَّكُم مِّن أَبِيْكُم). فَنَفْهَم مِن هَذَا أَنَّه تَرَكَهُم يَأْنَسُون إِلَيْه, وَاسْتَدْرَجَهُم حَتَّى ذَكَرُوْا لَه مِن هَم عَلَى وَجْه الْتَّفْصِيْل, وَأَن لَهُم أَخَا صَغِيْرا مِن أَبِيْهِم لَم يَحْضُر مَعَهُم لِأَن أَبَاه يُحِبُّه وَلَا يُطِيْق فِرَاقُه. فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِحَاجَات الرِّحْلَة قَال لَهُم: إِنَّه يُرِيْد أَن يَرَى أَخَاهُم هَذَا. (قَال ائْتُوْنِي بِأَخ لَّكُم مِّن أَبِيْكُم).
وَقَد رَأَيْتُم أَنَّنِي أُوَفِّي الْكَيْل لِلْمُشْتَرِيْن. فَسأُوَفِيْكُم نَصِيْبِكُم حِيْن يَجِيْء مَعَكُم; وَرَأَيْتُم أَنَّنِي أَكْرَم الْنُّزَلاء فَلَا خَوْف عَلَيْه بَل سَيَلْقَى مِنِّي الْإِكْرَام الْمَعْهُوْد: (أَلّا تَرَوْن أَنِّي أُوَفِّي الْكَيْل وَأَنَا خَيْر الْمُنْزِلِيْن ).
وَلَمَّا كَانُوْا يَعْلَمُوْن كَيْف يَضِن أَبُوَهُم بِأَخِيْهِم الْأَصْغَر - وَبِخَاصَّة بَعْد ذَهَاب يُوَسُف - فَقَد أَظْهَرُوْا أَن الْأَمَر لَيْس مَّيْسُورا, وَإِنَّمَا فِي طَرِيْقِه عَقَبَات مِن مُمَانَعَة أَبِيْهِم, وَأَنَّهُم سَيُحَاوِلُون إِقْنَاعِه, مَع تَوْكِيْد عَزْمُهُم - عَلَى الْرَّغْم مِن هَذِه الْعَقَبَات - عَلَى إِحْضَارِه مَعَهُم حِيْن يَعُوْدُوْن: (قَالُوَا سَنُرَاوِد عَنْه أَبَاه وَإِنَّا لَفَاعِلُوْن).
وَلَفْظ (نُرَاوِد) يُصَوِّر الْجَهْد الَّذِي يَعْلَمُوْن أَنَّهُم بَاذَلُوه.
أَمَّا يُوْسُف فَقَد أَمَر غِلْمَانَه أَن يَدْسّوا الْبِضَاعَة الَّتِي حَضَر بِهَا إِخْوَتِه ليَسْتَبَدِلُوا بِهَا الْقَمْح وَالْعَلَف. وَقَد تَكُوْن خَلِيْطَا مِن نَقْد وَمَن غَلِات صَحْرَاوِيَّة أُخْرَى مِن غَلِات الْشَّجَر الْصَّحْرَاوِي, وَمَن الْجُلُوْد وَسِوَاهَا مِمَّا كَان يُسْتَخْدَم فِي الْتَّبَادُل فِي الْأَسْوَاق. أَمَر غِلْمَانَه بدَسِهَا فِي رِحَالِهِم - وَالْرَّحْل مَتَاع الْمُسَافِر - لَعَلَّهُم يَعْرِفُوْن حِيْن يَرْجِعُوْن أَنَّهَا بِضَاعَتَهُم الَّتِي جَاءُوْا بِهَا.
الْمَشْهَد الثَّالِث:
نَدْع يُوْسُف فِي مِصْر . لِنَشْهَد يَعْقُوْب وَبَنِيْه فِي أَرْض كَنْعَان. رَجَع الْأُخُوَّة إِلَى أَبِيْهِم.. وَقَبْل أَن يَنْزِلُوْا أَحْمَال الْجَمَال وَيَفْكّوا مَتَاعَهُم، دَخَلُوْا عَلَى أَبِيْهِم. قَائِلِيْن لَه بِعِتَاب: إِن لَم تُرْسِل مَعَنَا أَخَانَا الْصَّغِيْر فِي الْمَرَّة الْقَادِمَة فَلَن يُعْطِيَنَا عَزِيْز مِصْر الْطَّعَام. وَخَتَمُوا كَلَامِهِم بِوَعْد جَدِيْد لِيَعْقُوْب عَلَيْه الْسَّلام (وَإِنَّا لَه لَحَافِظُوْن).
وَيَبْدُوَا أَن هَذَا الْوَعْد قَد أَثَار كَوَامِن يَعْقُوْب. فَهُو ذَاتِه وَعِدْهُم لَه فِي يُوَسُف! فَإِذَا هُو يُجَهِّز بِمَا أَثَارَه الْوَعْد مِن شُجُوْنَه:
قَال هَل آَمَنُكُم عَلَيْه إِلَا كَمَا أَمِنْتُكُم عَلَى أَخِيْه مِن قَبْل فَاللَّه خَيْر حَافِظا وَهُو أَرْحَم الْرَّاحِمِيْن (64) (يُوَسُف)
وَفَتْح الْأَبْنَاء أَوْعِيَتِهِم لِيَخْرُجُوْا مَا فِيْهَا مِن غِلَال.. فَإِذَا هُم يَجِدُوْن فِيْهَا بِضَاعَتَهُم الَّتِي ذَهَبُوْا يَشْتَرُوْن بِهَا.. مَرْدُوْدَة إِلَيْهِم مَع الْغِلَّال وَالْطَّعَام.. وَرَد الثَّمَن يُشِيْر إِلَى عَدَم الرَّغْبَة فِي الْبَيْع، أَو هُو إِنْذَار بِذَلِك.. وَرُبَّمَا كَان إِحْرَاجَا لَهُم لِيَعُوْدُوْا لِسَدَاد الثَّمَن مَرَّة أُخْرَى.
وَأَسْرَع الْأَبْنَاء إِلَى أَبِيْهِم (قَالُوَا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي) ..لَم نَكْذِب عَلَيْك.. لَقَد رَد إِلَيْنَا الثُّمُن الَّذِي ذَهَبْنَا نَشْتَرِي بِه. هَذَا مَعْنَاه أَنَّهُم لَن يَبِيْعُوْا لَنَا إِلَا إِذَا ذَهَب أَخُوْنَا مَعَنَا.
وَاسْتَمَر حِوَارِهِم مَع الْأَب.. أَفْهِمُوه أَن حُبَّه لِابْنِه وَالْتِصَاقِه بِه يَفْسُدَان مَصَالِحِهِم، وَيُؤَثِّرَان عَلَى اقْتِصَادَهُم، وَهُم يُرِيْدُوْن أَن يَتَزَوَّدُوْا أَكْثَر، وَسَوْف يَحْفَظُوْن أَخَاهُم أَشَد الْحِفْظ وَأَعْظَمَه.. وَانْتَهَى الْحِوَار بِاسْتِسْلام الْأَب لَهُم.. بِشَرْط أَن يُعَاهِدُوْه عَلَى الْعَوْدَة بِابْنِه، إِلَا إِذَا خَرَج الْأَمْر مِن أَيْدِيَهِم وَأُحِيط بِهِم..
نُصْحَهُم الْأَب أَلَا يَدْخُلُوَا -وَهُم أَحَد عَشَر رَجُلا- مِن بَاب وَاحِد مِن أَبْوَاب بِمِصْر.. كَي لَا يَسَتَلْفْتُوا انْتِبَاه أَحَد.. وَرُبَّمَا خَشِي عَلَيْهِم أَبُوَهُم شَيْئا كَالْسَّرِقَة أَو الْحَسَد.. لَا يَقُوْل لَنَا السِّيَاق الَقُرْآني مَاذَا كَان الْأَب يَخْشَى، وَلَو كَان الْكَشِف عَن الْسَّبَب مُهِمَّا لَقِيْل.
الْمَشْهَد الْرَّابِع:
عَاد إِخْوَة يُوَسُف الْأَحَد عَشَر هَذِه الْمَرَّة.
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوَسُف آَوَى إِلَيْه أَخَاه قَال إِنِّي أَنَا أَخُوْك فَلَا تَبْتَئِس بِمَا كَانُوْا يَعْمَلُوْن (69) (يُوَسُف)
يَقْفِز السِّيَاق قَفْزَا إِلَى مَشْهَد يُوَسُف وَهُو يَحْتَضِن أَخَاه وَيَكْشِف لَه وَحْدَه سَر قَرَابَتِه، وَلَا رَيْب أَن هَذَا لَم يُحْدِث فَوْر دُخُوْل الْإِخْوَة عَلَى يُوَسُف، وَإِلَا لَانْكَشَفَت لَهُم قَرَابَة يُوَسُف، إِنَّمَا وَقَع هَذَا فِي خَفَاء وَتَلَطَّف، فَلَم يَشْعُر إِخْوَتِه، غَيْر أَن السِّيَاق الْمُعْجِز يَقْفِز إِلَى أَوَّل خَاطِر سَاوَر يُوَسُف عِنْد دُخُوْلِهِم عَلَيْه وَرُؤْيَتُه لِأَخِيْه..
وَهَكَذَا يَجْعَلُه الْقُرْآَن أَوَّل عَمَل، لِأَنَّه أَوَّل خَاطِر، وَهَذِه مِن دَقَائِق الْتَعِبِيَر فِي هَذَا الْكِتَاب الْعَظِيْم. يَطْوِي السِّيَاق كَذَلِك فَتْرَة الْضِّيَافَة، وَمَا دَار فِيْهَا بَيْن يُوَسُف وَإِخْوَتِه، وَيَعْرِض مَشْهَد الْرَّحِيْل الْأَخِير.. هَا هُو ذَا يُوَسُف يُدَبِّر شَيْئا لِإِخْوَتِه.. يُرِيْد أَن يَحْتَفِظ بِأَخِيْه الْصَّغِيْر مَعَه. يَعْلَم أَن احْتِفَاظُه بِأَخِيْه سَيُثِير أَحْزَان أَبِيْه، وَرُبَّمَا حَرَّكَت الْأَحْزَان الْجَدِيْدَة أَحْزَانَه الْقَدِيْمَة، وَرُبَّمَا ذَكَرَه هَذَا الْحَادِث بِفَقْد يُوَسُف.. يَعْلَم يُوْسُف هَذَا كُلِّه.. وَهَا هُو ذَا يَرَى أَخَاه.. وَلَيْس هُنَاك دَافِع قَاهِر لاحْتِفَاظِه بِه، لِمَاذَا يَفْعَل مَا فَعَل وَيُحْتَفَظ بِأَخِيْه هَكَذَا!؟
يُكْشَف السِّيَاق عَن الْسِر فِي ذَلِك.. إِن يُوَسُف يَتَصَرَّف بِوَحْي مِن الْلَّه.. يُرِيْد الْلَّه تَعَالَى أَن يَصِل بِابْتِلَائِه لِيَعْقُوْب إِلَى الْذُّرْوَة.. حَتَّى إِذَا جَاوَز بِه مِنْطَقَة الْأَلَم الْبَشَرِي الْمُحْتَمَل وَغَيْر الْمُحْتَمَل، وَرَآَه صَابِرا رَد عَلَيْه ابْنَيْه مَعَا، وَرْد إِلَيْه بَصَرُه.
أَمَر يُوْسُف -عَلَيْه الْسَّلَام- رِجَالُه أَن يُخْفُوْا كَأْس الْمَلِك الْذَّهَبِيَّة فِي مَتَاع أَخِيْه خِلْسَة.. وَكَانَت الْكَأْس تُسْتَخْدَم كُمِكْيَال لِلْغِلال.. وَكَانَت لَهَا قَيَّمْتُهَا كِمِعْيَار فِي الْوَزْن إِلَى جُوَار قِيْمَتِهَا كَذَهَب خَالِص. أَخْفَى الْكَأْس فِي مَتَاع أَخِيْه.. وَتَهَيَّأ إِخْوَة يُوَسُف لِلْرَّحِيل، وَمَعَهُم أَخُوَهُم.. ثُم أُغْلِقَت أَبْوَاب الْعَاصِمَة.. (ثُم أَذَّن مُؤَذِّن أَيَّتُهَا الْعِيْر إِنَّكُم لَسَارِقُوْن)..!!
كَانَت صَرْخَة الْجُنْد تَعْنِي وُقُوْف الْقَوَافِل جَمِيْعا.. وَانْطَلَق الاتِّهَام فَوْق رُؤُوْس الْجَمِيْع كَقَضَاء خَفِي غَامِض.. أَقْبَل الْنَّاس، وَأَقْبَل مَعَهُم إِخْوَة يُوْسُف..( مَّاذَا تَفْقِدُوْن)؟
هَكَذَا تُسَائِل إِخْوَة يُوَسُف.. قَال الْجُنُوْد: (نَفْقِد صُوَاع الْمَلِك).. ضَاعَت كَأْسَه الْذَّهَبِيَّة.. وَلِمَن يَجِيْء بِهَا مُكَافَأَة.. سَنُعْطِيْه حِمْل بَعِيْر مِن الْغِلَّال.
قَال إِخْوَة يُوْسُف بِبَرَاءَة: لَم نَأْت لِنُفْسِد فِي الْأَرْض وَنَسْرِق! قَال الْحُرَّاس (وَكَان يُوْسُف قَد وَجْهِهِم لِمَا يَقُوْلُوْنَه): أَي جَزَاء تُحِبُّوْن تَوْقِيْعِه عَلَى الْسَّارِق؟
قَال إِخْوَة يُوْسُف: فِي شَرِيْعَتِنَا نَعْتَبِر مَن سَرَق عَبْدا لِمَن سَرَقَه.
قَال الْحَارِس: سَنُطَبِّق عَلَيْكُم قَانُوْنُكُم الْخَاص.. لَن نُطَبِّق عَلَيْكُم الْقَانُوْن الْمِصْرِي الَّذِي يَقْضِي بِسِجْن الْسَّارِق.
كَانَت هَذِه الْإِجَابَة كَيْدا وَتَدْبِيْرَا مِن الْلَّه تَعَالَى، أَلَهُم يُوَسُف أَن يَحْدُث بِهَا ضُبَّاطِه.. وَلَوْلَا هَذَا الْتَّدْبِير الْإِلَهِي لَامْتَنَع عَلَى يُوَسُف أَن يَأْخُذ أَخَاه.. فَقَد كَان دَيْن الْمُلْك أَو قَانُوْنِه لَا يَقْضِي بِاسْتِرْقَاق مَن سَرَق. وَبَدَأ الْتَّفْتِيْش.
كَان هَذَا الْحِوَار عَلَى مَنْظَر وَمَسْمَع مِن يُوَسُف، فَأَمَر جُنُوْدُه بِالْبَدْء بَتَفتِيش رَحَّال أُخُوَّتُه أَوَّلَا قَبْل تَفْتِيش رَحَل أَخِيْه الْصَّغِيْر. كَي لَا يُثِيْر شُبْهَة فِي نَتِيْجَة الْتَّفْتِيْش.
اطْمَأَن إِخْوَة يُوْسِف إِلَى بَرْاءَتْهُم مَن الْسَّرِقَة وَتَنَفَّسُوا الْصُّعَدَاء، فَلَم يَبْقَى إِلَّا أَخُوَهُم الْصَّغِيْر. وَتَم اسْتِخْرَاج الْكَأْس مِن رَحْلِه. فَأَمَر يُوَسُف بِأَخْذ أَخِيْه عَبْدِا، قَانُوْنَهُم الَّذِي طَبَقَه الْقَضَاء عَلَى الْحَادِث.
أَعْقَب ذَلِك مَشْهَد عَنِيْف الْمَشَاعِر.. إِن إِحَسَّاس الْإِخْوَة بِرَاحَة الْإِنْقَاذ وَالْنَّجَاة مِن الْتُّهْمَة، جَعَلَهُم يَسْتَدِيْرُوْن بِالْلَّوْم عَلَى شَقِيْق يُوَسُف (قَالُوْا إِن يَسْرِق فَقَد سَرَق أَخ لَّه مِن قَبْل) إِنَّهُم يَتَنَصَّلُون مِن تُهْمَة الْسَّرِقَة.. وَيُلْقَوْنَهَا عَلَى هَذَا الْفَرْع مِن أَبْنَاء يَعْقُوْب.
سَمِع يُوْسُف بِأُذُنَيْه اتِّهَامَهُم لَه، وَأُحِس بِحُزْن عَمِيْق.. كَتَم يُوَسُف أَحْزَانَه فِي نَفْسِه وَلَم يَظْهَر مَشَاعِرَه.. قَال بَيِّنْه وَبَيْن نَفْسِه(أَنْتُم شَر مَّكَانا وَاللَّه أَعْلَم بِمَا تَصِفُوْن). لَم يَكُن هَذَا سَبَّابَا لَهُم، بِقَدْر مَا كَان تَقْرِيْرا حَكِيْما لِقَاعِدَة مِن قَوَاعِد الْأَمَانَة. أَرَاد أَن يَقُوْل بَيْنَه وَبَيْن نَفْسِه: إِنَّكُم بِهَذَا الْقَذْف شَر مَكَانا عِنْد الْلَّه مِن الْمَقْذُوف، لِأَنَّكُم تَقْذِفُوْن بَرِيْئَيْن بِتُهْمَة الْسَّرِقَة.. وَاللَّه أَعْلَم بِحَقِيْقَة مَا تَقُوْلُوْن.
سَقَط الْصَّمْت بَعْد تَعْلِيْق الْإِخْوَة الْأَخِير.. ثُم انْمَحَى إِحْسَاسَهُم بِالْنَّجَاة، وَتَذَكَّرُوْا يَعْقُوْب.. لَقَد أَخَذ عَلَيْهِم عَهْدَا غَلِيْظا، أَلَا يُفَرِّطُوا فِي ابْنِه. وَبَدَءُوا اسْتِرْحَام يُوَسُف: يُوَسُف أَيُّهَا الْعَزِيْز.. يُوَسُف أَيُّهَا الْمَلِك.. إِن لَه أَبا شَيْخا كَبِيْرا فَخُذ أَحَدَنَا مَكَانَه إِنَّا نَرَاك مِن الْمُحْسِنِيْن
قَال يُوْسُف بِهُدُوْء: كَيْف تُرِيْدُوْن أَن نَّتْرُك مِن وَجَدْنَا كَأْس الْمَلِك عِنْدَه.. وَنَأْخُذ بَدَلَا مِنْه أَنْسَانَا آَخَر..؟ هَذَا ظُلْم.. وَنَحْن لَا نَظَّلُم.
كَانَت هِي الْكَلِمَة الْأَخِيْرَة فِي الْمَوْقِف. وَعَرَفُوا أَن لَا جَدْوَى بَعْدَهَا مِن الْرَّجَاء، فَانْسَحَبُوْا يُفَكِّرُوْن فِي مَوْقِفِهِم الْمُحْرَج أَمَام أَبِيْهِم حِيْن يَرْجِعُوْن.
الْمَشْهَد الْخَامِس:
عَقَدُوْا مَجْلِسَا يَتَشَاوَرُوْن فِيْه. لَكِن السِّيَاق الَقُرْآني لَا يَذْكُر أَقْوَالِهِم جَمِيْعا. إِنَّمَا يَثْبُت آَخِرِهَا الَّذِي يَكْشِف عَمَّا انْتَهَوْا إِلَيْه. ذِكْر الْقُرْآَن قَوْل كَبِيْرُهُم إِذ ذَكِّرْهُم بِالمُوثَق الْمَأْخُوْذ عَلَيْهِم، كَمَا ذَكَرَهُم بِتَفْرِيطَهُم فِي يُوَسُف مِن قَبْل.
ثُم يُبَيِّن قَرَارُه الْجَازِم: أَلَا يَبْرَح مِصْر، وَأَلَا يُوَاجِه أَبَاه، إِلَا أَن يَأْذَن أَبُوْه، أَو يَقْضِي الْلَّه لَه بِحُكْم، فَيَخْض لَه وَيَنْصَاع. وَطَلَب مِنْهُم أَن يَرْجِعُوَا إِلَى أَبِيْهِم فَيُخْبَرُوه صَرَاحَة بِأَن ابْنَه سَرَق، فَاخِذ بِمَا سَرَق. ذَلِك مَا عَلِمُوْه شَهِدُوْا بِه.
أَمَّا إِن كَان بَرِيْئا، وَكَا هُنَاك أَمْر وَرَاء هَذَا الْظَّاهِر لَا يَعْلَمُوْنَه، فَهُم غَيْر مُوَكَّلِين بِالْغَيْب. وَإِن كَان فِي شَك مِن قَوْلِهِم فَلْيَسْأَل أَهْل الْقَرْيَة الَّتِي كَانُوْا فِيْهَا -أَي أَهْل مِصْر- وَلْيَسْأَل الْقَافِلَة الَّتِي كَانُوْا فِيْهَا، فَهُم لَم يَكُوْنُوْا وَحْدَهُم، فَالقَوافِل الْكَثِيْرَة كَانَت تَرِد مِصْر لِتَأْخُذ الْطَّعَام.
الْمَشْهَد الْسَّادِس:
لِيَعْقُوْب -عَلَيْه الْسَّلَام- مَا حَدَث. اسْتَمَع يَعْقُوْب إِلَيْهِم وَقَال بِحُزْن صَابِر، وَعَيْن دَامِعَة: (بَل سَوَّلَت لَكُم أَنْفُسُكُم أَمْرا فَصَبْر جَمِيْل عَسَى الْلَّه أَن يَأْتِيَنِي بِهِم جَمِيْعا إِنَّه هُو الْعَلِيْم الْحَكِيْم).
(بَل سَوَّلَت لَكُم أَنْفُسُكُم أَمْرا فَصَبْر جَمِيْل) كَلِمَتَه ذَاتِهَا يَوْم فَقَد يُوَسُف.. لَكِنَّه فِي هَذِه الْمَرَّة يُضَيِّف إِلَيْهَا الْأَمَل أَن يَرُد الْلَّه عَلَيْه يُوَسُف وَأَخَاه فَيَرُد ابْنَه الْآَخِر الْمُتَخَلِّف هُنَاك.
هَذَا الْشُّعَاع مِن أَيْن جَاء إِلَى قَلْب هَذَا الْرَّجُل الْشَّيْخ؟ إِنَّه الْرَّجَاء فِي الْلَّه، وَالِاتِّصَال الْوَثِيق بِه، وَالْشُّعُوْر بِوُجُوْدِه وَرَحْمَتُه. وَهُو مُؤْمِن بِأَن الْلَّه يَعْلَم حَالَه، وَيَعْلَم مَا وَرَاء هَذِه الْأَحْدَاث وَالامْتِحَانَات.
وَيَأْتِي بِكُل أَمْر فِي وَقْتِه الْمُنَاسِب، عِنَدَمّا تَتَحّق حِكْمَتِه فِي تَرْتِيْب الْأَسْبَاب وَالْنَّتَائِج.
(وَتَوَلَّى عَنْهُم وَقَال يَا أَسَفَى عَلَى يُوَسُف وَابْيَضَّت عَيْنَاه مِن الْحُزْن فَهُو كَظِيْم) وَهِي صُوْرَة مُؤْثَرَة لِلْوَالِد الْمَفْجُوع. يُحِس أَنَّه مُنَفِرْد بِهَمِّه، وَحِيْد بِمُصَابِه، لَا تُشَارِكُه هَذِه الْقُلُوُب الَّتِي حَوْلَه وَلَا تُجَاوِبُه، فَيَنْفَرِد فِي مَعْزِل، يُنْدَب فَجِيْعَتُه فِي وَلَدِه الْحَبِيْب يُوَسُف.
الَّذِي لَم يَنْسَه، وَلَم تُهَوِّن مِن مُصِيْبَتِه الْسِّنُوْن، وَالَّذِي تَذْكُرُه بِه نَكْبَتُه الْجَدِيدَة فِي أَخِيْه الْأَصْغَر فَتَغْلِبْه عَلَى صَبْرِه الْجَمِيْل. أَسْلَمَه الْبُكَاء الْطَّوِيِل إِلَى فَقَد بَصَرَه.. أَو مَا يُشْبِه فَقَد بَصَرَه. فَصَارَت أَمَام عَيْنَيْه غِشَاوَة بِسَبَب الْبُكَاء لَا يُمْكِن أَن يُرَى بِسَبَبِهَا. وَالكَظِيم هُو الْحَزِيِن الَّذِي لَا يَظْهَر حُزْنِه.
وَلَم يَكُن يَعْقُوْب -عَلَيْه الْسَّلَام- يَبْكِي أَمَام أَحَد.. كَان بُكَاؤُه شَكْوَى إِلَى الْلَّه لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا الْلَّه. ثُم لَاحِظ أَبْنَاؤُه أَنَّه لَم يُعِد يُبْصِر وَرَجَّحُوْا أَنَّه يَبْكِي عَلَى يُوَسُف، وَهَاجُمُوه فِي مَشَاعِرَه الْإِنْسَانِيَّة كَأَب.. حَذَّرُوْه بِأَنَّه سَيُهْلِك نَفْسِه:
قَالُوَا تَالْلَّه تَفْتَأ تَذْكُر يُوَسُف حَتَّى تَكُوْن حَرَضا أَو تَكُوْن مِن الْهَالِكِيْن (85) قَال إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الْلَّه وَأَعْلَم مِن الْلَّه مَا لَا تَعْلَمُوْن (86) (يُوَسُف)
رَدَّهُم جَوَاب يَعْقُوْب إِلَى حَقِيْقَة بُكَائِه.. إِنَّه يَشْكُو هَمُّه إِلَى الْلَّه.. وَيَعْلَم مَن الَلّه مَا لَا يَعْلَمُوْن.. فلْيُتَرَكُوه فِي بُكَائِه وَلِيُصَرَفُوا هَمُّهُم لِشَيْء أَجْدَى عَلَيْهِم (يَا بَنِي اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوَسُف وَأَخِيْه وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْح الْلَّه إِنَّه لَا يَيْأَس مِن رَّوْح الْلَّه إِلَا الْقَوْم الْكَافِرُوْن) إِنَّه يُكْشَف لَهُم فِي عُمْق أَحْزَانَه عَن أَمَلِه فِي رُوْح الْلَّه.. إِنَّه يُشْعِر بِأَن يُوَسُف لَم يَمُت كَمَا أَنَبئُوه.. لَم يَزَل حَيا، فَلْيَذْهَب الْإِخْوَة بَحْثَا عَنْه.. وَلْيَكُن دَلِيْلُهُم فِي الْبَحْث، هَذَا الْأَمَل الْعَمِيق فِي الْلَّه.
الْمَشْهَد الْسَّابِع:
تَحَرَّكَت الْقَافِلَة فِي طَرِيْقِهَا إِلَى مِصْر.. إِخْوَة يُوَسُف فِي طَرِيْقِهِم إِلَى الْعَزِيْز.. تَدَهْوُر حَالِهِم الاقْتِصَادِي وَحَالُهُم الْنَّفْسِي.. إِن فَقْرُهُم وَحُزْن أَبِيْهِم وَمُحَاصَرَة الْمَتَاعِب لَهُم، قَد هَدَّت قُوَاهُم تَمَامَا.. هَا هُم أُوْلَاء يَدْخُلُوْن عَلَى يُوَسُف..
مَعَهُم بِضَاعَة رَدِيْئَة.. جَاءُوَا بِثَمَن لَا يُتِيْح لَهُم شِرَاء شَيْء ذِي بَال.. وَعِنْدَمَا دَّخَلُوا عَلَى يُوَسُف - عَلَيْه الْسَّلَام- رَجَوْه أَن يَتَصَدَّق عَلَيْهِم (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْه قَالُوْا يَا أَيُّهَا الْعَزِيْز مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الْضُّر وَجِئْنَا بِبِضَاعَة مُّزْجَاة فَأَوْف لَنَا الْكَيْل وَتَصَدَّق عَلَيْنَآ إِن الْلَّه يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِيْن)
انْتَهَى الْأَمْر بِهِم إِلَى الْتَّسَوُّل.. إِنَّهُم يَسْأَلُوْنَه أَن يَتَصَدَّق عَلَيْهِم.. وَيَسْتَمِيْلُوْن قَلْبِه، بِتَذْكِيْرِه أَن الْلَّه يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِيْن.
عِنْدَئِذ.. وَسَط هَوَانِهِم وَانْحِدَار حَالِهِم.. حَدَّثَهُم يُوَسُف بِلُغَتِهِم، بِغَيْر وَاسِطَة وَلَا مُتَرْجِم:
قَال هَل عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوْسُف وَأَخِيْه إِذ أَنْتُم جَاهِلُوْن (89) قَالُوْا أَإِنَّك لَأَنْت يُوْسُف قَال أَنَا يُوْسُف وَهـذَا أَخِي قَد مَن الْلَّه عَلَيْنَا إِنَّه مَن يَتَّق وَيِصْبِر فَإِن الْلَّه لَا يُضِيْع أَجْر الْمُحْسِنِيْن (90) قَالُوْا تَالِلَّه لَقَد آَثَرَك الْلَّه عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِيْن (91) (يُوَسُف)
يَكَاد الْحِوَار يَتَحَرَّك بِأَدَق تَعْبِيْر عَن مَشَاعِرُهُم الْدَّاخِلِيَّة.. فَاجَأَهُم عَزِيْز مِصْر بِسُؤَالِهِم عَمَّا فَعَلُوْه بِيُوْسُف.. كَان يَتَحَدَّث بِلُغَتِهِم فَأَدْرَكُوَا أَنَّه يُوْسُف.. وَرَاح الْحِوَار يَمْضِي فَيَكْشِف لَهُم خَطِيْئَتِهِم مَعَه.. لَقَد كَادُوْا لَه وَالْلَّه غَالِب عَلَى أَمْرِه
مَرَّت الْسَّنَوَات، وَذَهَب كَيْدُهُم لَه.. وَنُفِّذ تَدْبِيْر الْلَّه الْمُحْكَم الَّذِي يَقَع بِأَعْجَب الْأَسْبَاب.. كَان إِلْقَاؤُه فِي الْبِئْر هُو بِدَايَة صُعُوْدِه إِلَى الْسُّلْطَة وَالْحُكْم.. وَكَان إِبْعَادُهُم لَه عَن أَبِيْه سَبَبا فِي زِيَادَة حَب يَعْقُوْب لَه. وَهَا هُو ذَا يَمْلِك رِقَابِهِم وَحَيَاتُهُم، وَهُم يَقِفُوْن فِي مَوْقِف اسْتِجْدَاء عِطْفِه.. إِنَّهُم يَخْتِمُون حِوَارِهِم مَعَه بِقَوْلِهِم (قَالُوْا تَالِلَّه لَقَد آَثَرَك الْلَّه عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِيْن)
إِن رُوْح الْكَلِمَات وَاعْتِرَافِهُم بِالْخَطَأ يْشْيان بِخَوْف مُبْهَم غَامِض يَجْتَاح نُفُوْسِهِم.. وَلَعَلَّهُم فَكِّرُوا فِي انْتِقَامَه مِنْهُم وَارْتَعَدَت فَرَائِصُهُم.. وَلَعَل يُوَسُف أَحَس ذَلِك مِنْهُم فَطَمْأَنَهُم بِقَوْلِه (قَال لَا تَثْرَيب عَلَيْكُم الْيَوْم يَغْفِر الْلَّه لَكُم وَهُو أَرْحَم الْرَّاحِمِيْن) لَا مُؤَاخَذَة، وَلَا لَوْم، انْتَهَى الْأَمْر مِن نَفْسِي وَذَابَت جُذُوْرَه.. لَم يَقُل لَهُم إِنَّنِي أَسَامُحُكُم أَو أَغْفِر لَكُم، إِنَّمَا دَعَا الْلَّه أَن يَغْفِر لَهُم، وَهَذَا يَتَضَمَّن أَنَّه عَفَا عَنْهُم وَتَجَاوَز عَفْوِه، وَمَضَى بَعْد ذَلِك خُطُوَات.. دَعَا الْلَّه أَن يَغْفِر لَهُم.. وَهُو نَبِي وَدَعَوْتُه مُسْتَجَابَة.. وَذَلِك تُسَامِح نَرَاه آَيَة الْآَيَات فِي الْتَسَامُح.
هَا هُو ذَا يُوَسُف يُنْهِي حُوّارَه مَعَهُم بِنَقَلَة مُفَاجِئَة لِأَبِيْه.. يَعْلَم أَن أَبَاه قَد ابْيَضَّت عَيْنَاه مِن الْحُزْن عَلَيْه.. يَعْلَم أَنَّه لَم يُعِد يُبْصِر.. لَم يَدْر الْحِوَار حَوْل أَبِيْه لَكِنَّه يَعْلَم.. يُحِس قَلْبِه.. خَلَع يُوَسُف قَمِيْصَه وَأَعْطَاه لَهُم (اذْهَبُوا بِقَمِيْصِي هـذَا فَأَلْقُوه عَلَى وَجْه أَبِي يَأْت بَصِيْرا وَأْتُوْنِي بِأَهْلِكُم أَجْمَعِيْن). وَعَادَت الْقَافِلَة إِلَى فِلَسْطِيْن.
الْمَشْهَد الْثَّامِن:
مَا أَنْت خَرَجْت الْقَافِلَة مِن مِصْر، حَتَّى قَال يَعْقُوْب -عَلَيْه الْسَّلَام- لِمَن حَوْلَه فِي فِلِسْطِيْن: إِنِّي أَشَم رَائِحَة يُوَسُف، لَّوْلَا أَنَّكُم تَقُوْلُوْن فِي أَنْفُسِكُم أَنَّنِي شَيْخ خَرِف لَصَدَّقْتُم مَا أَقُوْل. فَرْد عَلَيْه مِن حَوْلِه.
لَكِن الْمُفَاجَأَة الْبَعِيْدَة تَقَع. وَصَلَت الْقَافِلَة، وَأَلْقَى الْبَشِيْر قَمِيْض يُوَسُف عَلَى وَجْه يَعْقُوب -عَلَيْهِمَا الْسَّلام- فَارْتَد بَصَرِه. هُنَا يُذْكَر يَعْقُوْب حَقِيْقَة مَا يَعْلَمُه مَن رَبِّه (قَال أَلَم أَقُل لَّكُم إِنِّي أَعْلَم مِن الْلَّه مَا لَا تَعْلَمُوْن).
فْاعَعْتَرّف الْأُخُوَّة بِخَطَئِهِم، وَطَلَبُوا مِن أَبَاهُم الاسْتِغْفَار لَهُم، فَهُو نَبِي وَدُعَاءَه مُسْتَجَاب. إِلَا أَن يَعْقُوْب عَلَيْه الْسَّلَام (قَال سَوْف أَسْتَغْفِر لَكُم رَبِّي إِنَّه هُو الْغَفُوْر الْرَّحِيْم) وَنُلَمِح هُنَا أَن فِي قَلْب يَعْقُوْب شَيْئا مِن بَنِيْه، وَأَنَّه لَم يَصْف لَهُم بَعْد، وَإِن كَان يَعِدُهُم بِاسْتِغْفَار الْلَّه لَهُم بَعْد أَن يَصْفُو وَيَسْكُن وَيَسْتَرِيْح.
هَا هُو الْمَشْهَد الْأَخِير فِي قِصَّة يُوَسُف:
بَدَأَت قِصَّتِه بِرُؤْيَا.. وَهَا هُو ذَا الْخِتَام، تَأْوِيْل رُؤْيَاه: فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوَسُف آَوَى إِلَيْه أَبَوَيْه وَقَال ادْخُلُوَا مِصْر إِن شَاء الْلَّه آمِنِيْن (99) وَرَفَع أَبَوَيْه عَلَى الْعَرْش وَخَرُّوا لَه سُجَّدا وَقَال يَا أَبَت هـذَا تَأْوِيْل رُؤْيَاي مِن قَبْل قَد جَعَلَهَا رَبِّي حَقا وَقَد أَحْسَن بَي إِذ أَخْرَجَنِي مِن الْسِّجْن وَجَاء بِكُم مِّن الْبَدْو مِن بَعْد أَن نَّزَغ الْشَّيْطَان بَيْنِي وَبَيْن إِخْوَتِي إِن رَبِّي لَطِيْف لِّمَا يَشَاء إِنَّه هُو الْعَلِيْم الْحَكِيْم (100) (يُوَسُف)
تَأَمَّل الْآَن مَشَاعِرَه وَرُؤْيَاه تَتَحَقَّق..
إِنَّه يَدْعُو رَبَّه (رَب قَد آَتَيْتَنِي مِن الْمُلْك وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيْل الْأَحَادِيْث فَاطِر الْسَّمَاوَات وَالْأَرْض أَنْت وَلِيِّي فِي الْدُّنُيَا وَالآَخِرَة تَوَفَّنِي مُسْلِما وَأَلْحِقْنِي بِالْصَّالِحِيْن).